:بسم الله والحم
لا يمكن لأي امة تريد أن تسلك سبيل الحضارة والرقى والتقدم إلا أن تنهل وتستنير بما يقوله علماؤها الأثبات والثقات في شتى أصول العلم وفروعه ، ثم تُعمل فيه البحث والاجتهاد وتطور فيه بما تطلب تجديده الأسباب والأحوال والمستجدات ، وأن تأخذ بالأسباب التي من شأنها أن تحقق تقدمها وريادتها ومن المعلوم أن لكل علم فلسفة وفقه يجب أن تبحر في أغوارهما ، ولكن للأسف الشديد من أسباب تخلفنا الآن أننا توقفنا عند تراث السابقين ننهل من قشوره ولم نجدد فيه وكأن العلم حط رحاله على أبوابهم ولم يفارقهم حتى دخل معهم قبورهم فلم يعد في الأمر متسع لمجتهد ولا نصيب لمكتشف ولا مسائلة لبحث ولا خيال لمبدع فأصيبت الأمة بالجمود والتخلف بالرغم من أن جهودهم كانت سابقة لعصرهم وتجديدا لمن سبقهم.
ومن يقرأ في سيرتهم يجدهم أنهم قد فطنوا إلى هذه الحالة التي أصبتنا من الجمود والخمول والدعة والتباكي على أمجادهم فنبهوا الأمة إلى خطر ذلك على مستقبلها ودعوا إلى ديمومة الاجتهاد والبحث و التطوير ومن أمثلة من نادي بذلك الشيخ رشيد رضا في (المنار) ونقل ذلك عن حجة الإسلام الشيخ أبي حامد الغزالي، ونقل ذلك عن سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وبه تحدث الشيخ محمد الغزالي بما يمكن أن نسميه "فقه المستقبل"، فقال – يرحمه الله - :إن لله تبارك وتعالى سننا ثابتة وقوانين خالدة في سير المجتمعات البشرية تشبه السنن والقوانين التي تدور بها الأفلاك، وتتحرك بها المادة، وتضبط بها قوانينها في كل جامد وسائل، تلك هي القوانين التي تجعل مجتمعا يزدهر وآخر يضطرب.
وهذه السنن هي التي تجعل حضارة تعلو وأخرى تكبو، هي القوانين التي تجعل أمة تنتصر وأخرى تنهزم، ولا بد أن يعرف الناس هذه القوانين وأن يتحاكموا إليها، أما التجاهل التام لها فلا يفيد، ولا بد أن تثأر تلك القوانين لنفسها بأن ينزل الله الناس على حكمها.
ومن سنن الله في العالم أن المكر السيئ دائمًا ينقلب على أهله ويصبح وبالا عليهم، فقد كان العرب قديما يتصورون أنهم أمة فيها ذكاء واعتداد بالنفس، حيث صاغ القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً}.
وقال الغزالي - رحمه الله- : الله هنا يريد أن يقول للعرب: إذا كنتم تفتخرون بأنسابكم وأحسابكم وتعتزون بمعادنكم ومسالككم؛ فإن هذا لا يفيدكم، لأن لي قوانين ثابتة ألزم البشر جميعا عليها وأنتم من البشر، فإذا كنتم ستنكرون وتلعبون، فسينكر بكم وتضيعون، وأما إذا استسلمتم لله وأديتم حقه والتزمتم عهده؛ فإن الله يوفي بعهده لكم.
ويتابع: إذن هذه قوانين لا بد أن تراعى، فدراستها أجدى لأمتنا من دراسات أنواع النجاسة والطهارة، وأنواع الثمن والإجارة، وغير ذلك من عقود وعهود؛ فإن سنن الله الكونية وقوانينه الإلهية التي أثبتها القرآن الكريم أهم، لأنها أدل على معرفة الله وعلى فقه أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله بين عباده.
وعدد الغزالي مجموعة من السنن الإلهية الواجب على الأمة فقهها فيقول: من سنن الله التي يجب أن نفقهها ما جاء في سورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وهذه الآية جاءت تعقيبا على قصتين، الأولى منها تمثل الاستبداد السياسي في مسلك الفرعنة الحاكمة، والثانية تمثل الطغيان الاقتصادي في مسلك القارونية الكاذبة؛ فلا الفرعنة بالحكم ولا الشح بالمال والطغيان به ولا أي مسلك من هذا القبيل، وإن أفلح في الدنيا أول أمره، فلن يبقى عالي الشأن، بل لا بد من الخسف به والإجهاز عليه، ثم الدار الآخرة بعد ذلك هي للمتواضعين وللمنكسرة قلوبهم مع الله، ولمن يفعلون الخير ابتغاء وجهه، ولمن يدخرون عنده ما يلقاهم يوم القيامة نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
ويتابع بنموذج آخر قائلا: "من القوانين الإلهية التي يجب أن نعرفها أيضًا، ما جاء في سورة السجدة، حيث يقول الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، هذه الآية في بني إسرائيل، وهي الآية التي تلاها ابن القيم عندما سئل: أيمَكَّن للإنسان أو الشعب أولا قبل أن يختبر، أم يختبر أولا ثم يمَكَّن له؟، فأجاب: بل يختبر أولا فإذا نجح في الامتحان ومحص البلاء معدنه وخرج من المحنة وهو نقي كان أهلا للقيادة وللسيادة وللصدارة وللإمارة، ثم تلا هذه الآية الكريمة".
ويوضح الغزالي أن إمامة الناس أو الصدارة في الأرض أو قيادة المجتمعات البشرية تحتاج إلى مؤهلات، فهو منصب لا يعتليه أي إنسان أو شعب، بل يحتاج إلى مرشحات ومؤهلات عقلية وخلقية.
ويوضح أن القرآن الكريم قد نبه إلى هذا عندما ذكر إمامة إبراهيم للناس، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..} ويقول الغزالي: "فبعد أن أتم إبراهيم الكلمات، أصبح مؤهلا لنيل الإمامة، ولكن عندما طمح سيدنا إبراهيم في أن تنال ذريته تلك الإمامة، كان الرد الإلهي الحاسم: "لا ينال عهدي الظالمين"، وهذا يعلمنا أن المعاناة لا بد منها لمن يريد الإمامة إن كان فردا أم شعبا من الشعوب..".
ويتحدث الغزالي رحمه الله عن أمر يؤرق كثيرا من العاملين في مجال الإصلاح، حيث الزمان يطول بهم ولا يرون ثمرة عملهم، فيؤكد أن "سنن الله الكونية تحتاج إلى زمن طويل وأن نتيجة التقوى والصبر لا تظهر خلال أيام قلائل ولا شهور معدودة، بل قد تستغرق سنين طويلة، وأن على الأمم والأفراد أن يعلموا أنه مع مر الزمن تتحقق الآمال، وتنفذ الوعود ولكن لا بد من معاناة طويلة، خلال هذه المعاناة تتحقق هذه السنة الإلهية..".
ويستشهد على ذلك بقصة يوسف عليه السلام حينما جاءه إخوته بعد أن تقلب يوسف في أطوار الزمن من ضعف وقوة وحرية ورق، وسجن ومنصب، فجاءه إخوته على حد تعبير الغزالي "متسولون" يقولون له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، فقال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا} ثم قال يوسف هذا القانون الإلهي: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ويعقب الغزالي قائلا: "وأجر المحسنين هنا بعد التقوى والصبر لم يبرز إلا بعد عشرات السنين..".
ويختم الغزالي بعرضه لقانون إلهي آخر من سورة محمد: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، فيقول: "هم قد يكونون أذكياء ولكن ذكاءهم يحسب عليهم، الحضارة الأوروبية حضارة ذكية، ولكن بقدر ما تعمر تدمر، ولذلك يقول الله: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، لكن هذا يحتاج أيضا لزمن طويل.
ويصف الغزالي رحمه الله معالم الطريق الذي يجب أن تسلكه الأمة ونتائجه فيقول : " في هذا الزمن الطويل من زرع مرا حصد الشوك ومن زرع فيه فاكهة حصد الجنى الطيب، ولكن لابد من المعاناة.. انتظر من اليوم إلى الغد، وانتظر من الغد إلى بعده، انتظر من الدنيا إلى الآخرة، فإن الله تعالى يريد من عباده ألا يعاملوه بعجلتهم، فإن الحديث يقول: (إن الله لا يعجل بعجلة أحدكم)، فالعجلة لا تعطي شيئًا، ولكن صبر نفسك على قدر الله، وكن رجلا تؤدي ما عليك وكن في شعب يؤدي ما عليه، وبذلك تنتصر الأمم والشعوب ". وللحديث بقية....
خواطر حول فقه المستقبل(2)
كم من مئات الندوات والمؤتمرات وعشرات الآلاف من المقالات ومئات المساجلات الفكرية ومثلها من الحوارات تحدثنا فيها عن الماضي التليد وبما يزخر به من أمجاد ومآثر ؟! وكم من مرة تباكينا وسطرنا مئات القصائد والأشعار على سقوط الخلافة الإسلامية على يد الذئب الأغبر كمال أتاتورك ، واعتصرنا ألما على سقوط الأندلس واشتقنا لربيع قرطبة ؟ وكم مئات المرات لهجنا بالدعاء واللعن على عصر ملوك الدويلات الطوائف الذي شرذم الأمة وقطع أواصرها إربا ؟!
وكم من مرة طأطأت رؤوسنا أسفا وحسرة على مآسينا في ديار الإسلام شرقا وغربا بداية من جرائم الهندوس في كمشير،إلى حمامات الدم في العراق وأفغانستان ،وسيطرة الأمريكان على مقدرات المسلمين ، ومكائدهم في حوض النيل ؟! وكم من مرة بحت أصواتنا هتافا ونحيبا لجرائم الصهاينة في فلسطين وحصارهم لغزة ومن قبل ذلك احتلالهم للأقصى الحبيب وتهويدهم للقدس الشريف ؟! وغيرها من المآسي التي شيبت كل حليم وأذهلت على مرضعة عن وليدها؛ نعم بكينا أنهارا من الدموع وانتحبنا حتى تقرحت العيون وتفتقت الأكباد من الحسرات، ولكن كم مرة تطلعنا لننهض من حاضرنا العاثر إلى المستقبل المشرق ؟ وكم مرة حاولنا الانطلاق من حالة الوهن والاستضعاف إلى الأخذ بأسباب التمكين مستصحبين في طريقنا المبشرات ؟
الكثير منا الآن على كل المستويات من العوام إلى النخب الثقافية والفكرية وصولا إلى المشايخ والدعاة و العلماء والفقهاء أصبحوا لا يتحدثون إلا عن الماضي وكيف كنا ، ويلعنون الحاضر البائس والواقع الماثل بكل ما فيه من مساوئ وإخفاقات ، وأقل القليل من يتحدث عن الحاضر وكيف نعالج ما به من قصور؟ وعن المستقبل وكيف نصنعه ؟
حتى بعض أولئك الذين يتحدثون عن المستقبل يتحدثون بخوف وحذر بل ويرسمون له سيناريوهات مظلمة ومرعبة ويعتقدون أنه لا فكاك عن صدام حتمي للحضارات يفنى البشرية ، وهلاك مرتقب لملايين البشر بسبب نقص الموارد والحروب من أجل السيطرة عليها، وينتظرون في القريب البعيد أو العاجل المزيد من الكوارث والرماد البركاني بسبب ثورة البراكين ، وزيادة الاحتباس الحراري وتلوث الأنهار والمحيطات ونضوب الثروات ويضيفون على ذلك الطامة الكبرى والآزفة المرتقبة التي تقرع طبول الحرب بين الحين والحين ألا وهى الأسلحة النووية والتنافس في تطويرها والتي ستحدث اختلالا في موازين القوة في العالم ، هذه هي ملامح المستقبل الذي نقرأ عنه صبيحة كل يوم ونشاهده في كل النشرات ونتحاور عنه في كل الندوات والمؤتمرات والمحافل والدوائر ونسمعه على ألسنة المحللين والساسة و صناع القرار !!
لذا وبعد ما تقدم نجد أن الحاجة ماسة وضرورية لإحياء فقه جديد للمستقبل، يتعامل مع سنن ونواميس الله الجارية في الكون ولا يصطدم معها كما قال الإمام حسن البنا - يرحمه الله - { . . ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد . . }.
نعم نحتاج الآن وقبل أي وقت مضى لمفردات جديدة تلفظ عبارات اليأس وتمقت لغة الحرب وتنشد أساليب الحوار وتبدع في وسائل التعايش مع الآخر، وتجيد أبجديات النهضة وتعبر عن واقعنا وتصوغ مستقبلنا ، تقرأ الواقع بموضوعية ولا تقفز فوق الحقائق ولا تتجاهل الإمكانات والطاقات والمواهب في هذه الأمة ، تستلهم من الماضي صفحاته المشرقة وتتعاطى مع الحاضر بكل من فيه من ايجابيات وسلبيات ، وتستشرف المستقبل بالاجتهاد والعمل وإحسان البناء وتطوير الموجود وإيجاد المفقود ، وعلى علماء الأمة يقع الدور الأكبر في صياغة "فقه المستقبل" الذي يجدد لهذه الأمة دينها فالبشرية الحائرة التائهة مازالت تنتظر المنقذ ألا وهو الإسلام وفى هذا يقول الإمام الشهيد حسن البنا: (( لقد آمنا إيمانا لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا ((فكرة)) واحدة هي التي تنقذ البشرية المعذبة، وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس إلى سواء السبيل، وهي تستحق أن يضحى في سبيل إعلائها والتبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه ((الفكرة)) هي: (( الإسلام الحنيف)) الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه)).
في السياق : عن عبد الله بن عمرو قال خرج إلينا رسول الله ذات يوم فقال:( رأيت كأني أعطيت المقاليد و الموازين أما المقاليد فهي المفاتيح فوضعت في كفت ووضعت أمتي في كفت فرجحت لهم ثم جيء بأبي بكر فرجح بهم ثم جيء بعمر فرجح بهم ثم جيء بعثمان فرجح ثم رفعت فقال له رجل: فأين نحن؟ قال (أنتم حيث جعلتم أنفسكم).
خواطر حول فقه المستقبل (3)
يأتي هذا المقال الثالث من سلسلة خواطر حول "فقه المستقبل" وأسطول الحرية يشق عباب البحر في طريقه إلى غزة الأبية لكسر الحصار المفروض من جيش الاحتلال الصهيوني والمدعوم بصمت وتشرذم وتشتت عربي مهين ، ووسط تهديدات صهيونية بعملية عسكرية أسماها الكيان الصهيوني "رياح السماء" ، وبغض النظر عن المآلات التي سيسفر عنها هذا الأسطول الأعزل من كل قوة وعتاد إلا قوة واحدة قلبت كل الموازين وهى قوة "الوحدة والارتباط" والاعتماد على حول الله وقوته ، فالإصرار على كسر الحصار وتحقيق واجب النصرة في الدين رغم التهديدات في حقيقة الأمر انتصار كبير وتحقيق لأهم وأبرز مقومات ومضامين النهضة لهذه الأمة ألا وهو"الوحدة والارتباط".
أما عن علاقة هذا بموضوعنا "فقه المستقبل" فهو ذا صلة وثيقة حيث حقق هذا الأسطول مفهوما أصيلا من مفاهيم "فقه المستقبل" التي نحتاج أن نربى عليها الأمة لتخطو خطواتها المباركة نحو تحقيق نهضتها ألا وهو مفهوم "الوحدة والارتباط "، ووحدة المسلمين هدف عظيم سعى ويسعى إلى تحقيقه جميع الدعاة والمصلحين على مرّ التاريخ وغاية غالية تهفو إليها كل قلوب المؤمنين المخلصين لدينهم وربهم، ولا يشك أحد في عظمة هذا الهدف وأهميته العقلية والتشريعية، فما دعا إليه الإسلام من عزّة ورفعة ومنعة وشوكة للمسلمين لا يتحقق إلا في ظل الوحدة والارتباط قبل قوة الساعد والسلاح .
فالتمزّق والتشتت الذي يعيشه المسلمون منذ فترة طويلة هو سبب ذهاب ريحهم وتسلط أعداءهم عليهم، حتى أضحت مسألة العودة إلى المجتمع الإسلامي الموحّد هدفاً بعيدَ المنال .
لكن ورغم كل هذا لا بد أن نؤمن أن المستقبل للإسلام، و أن تشييد هذا المستقبل يكون بتحقيق الوحدة ؛ كيف لا، وكلمة التوحيد تنادينا بتوحيد الكلمة.وهاهو القرآن الكريم دستور الله الخالد يقررها في قوله تعالى :{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وبهذه الوحدة يصبح المسلمون قوة تهاب، وحصناً منيعاً؛ فلا يرضى أحدهم بخذلان أخيه، ولا تقرّ عينه بما يؤذيه، بل لا يرضى له إلا ما يرضاه لنفسه، وجسد هذا المفهوم حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«مثلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [متفق عليه].وهذه أبسط المعاني التي سعى لتحقيقها أسطول الحرية لكسر الحصار .
فوحدة الأمة فرض وواجب، والمسلمون بحاجة إلى التقارب والتفاهم، وهم اليوم بحاجة أكثر إلى ذلك مع هذا الوضع المؤلم، فالأعداء تكالبوا علينا، واستغلوا فينا وصمة التشتت والافتراق، حتى صرنا إلى هذا الواقع الأليم الماثل للعيان.
إن الأمة إن لم يجمعها الحق شعّبها الباطل، وإن لم توحّدها عبادة الرحمن مزّقتها عبادة الشيطان، وإن لم تتطلع إلى نعيم الآخرة الخالد تخاصمت على متاع الدنيا الزائل، ولذلك كان هذا التطاحن المزمن من خصائص الجاهلية الجهلاء، وديدن مَن لا إيمان له.
ولهذه الوحدة المنشودة والممكنة التحقيق عناصر ومقومات منها:
1- وحدة العقيدة المنضبطة بأصول عقدية ثابتة ، هي أصول الدين من كتاب وسنة نبوية صحيحة.
2- وحدة العمل والتدافع الحضاري وفق قاعدة: "نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه"، على أن يكون الاختلاف اختلاف تنوع لا اختلاف تضادّ.
3- وحدة مصدر التلقي والمرجعية ؛ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهى ما نصت عليه معظم الدساتير الحالية للدول العربية والإسلامية.
4- وحدة الهدف والغاية الكبرى بتحقيق العبودية لله وحدة وتحقيق المعروف الأكبر وهو تعبيد البشرية بحق لله رب العالمين.
5- وحدة الخصال ومكارم الأخلاق،فالأعمال قبل الأقوال والأخلاق قبل الانطلاق.
6- وحدة الثقافة والمنهج، بنشر الثقافة الإسلامية النابعة من تاريخ هذه الأمة وتراثها الحضاري المجيد.
7- وحدة المشاعر وتكثيفها لتحقيق التعاطف والنصرة للمستضعفين ، والذي أشار له حديث النعمان بن بشير سالف الذكر .
وتحقيق هذه الوحدة ليس صعبا ولا مستحيلا فالعودة للإسلام كفيلة بأن تحقق وحدة المسلمين، وهو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، على أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب، وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، فلا عصبيات جاهلية، ولا حميّة إلا للإسلام، ولا فرق في النسب واللون، ولا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بطاعة الله وتقواه.
وكيف تكون مستحيلة وقد تحققت في الماضي؛ فلقد جاء الإسلام والعرب في الجزيرة آنذاك فرق وطوائف لا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، إلا ما كان من دواعي العيش ومطالب الحياة في صورة لا تعدو وحدة قبلية، وعصبية جاهلية، وكانت على التفرق والخصام أقرب منها إلى الوحدة والوئام، فألّف الإسلام بين قلوب المسلمين على حقيقة واحدة صارخة، وهي الإيمان بإله واحد، وجاءت تعاليم الإسلام ومناهجه تقوّي تلك الرابطة، وتدعم تلك الوحدة بما افترض الله عليهم من صلاة وصوم وحج وزكاة، وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين، ودينه القويم، والتحلّي بكلّ خلق كريم، والتخلّي عن كلّ خلق ذميم.مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصبَحتُمْ بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ}
فواجبنا اليوم هو السعي لتحقيق مضامين هذه الوحدة بين الأفراد و العلماء، والشعوب، والحكومات، لتتحقق وحدة الأمة المنشودة بإذن الله تعالى.